تقرير محررة بث - هناء خليوي :
في عصر السرعة الرقمية أصبحت المقاطع القصيرة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. سواء كنا نتصفح "تيك توك" أو "إنستغرام ريلز"، أو"يوتيوب شورتس" نجد أنفسنا مُحاطين بمقاطع فيديو استطاعت أن تأسر انتباه ملايين الأشخاص حول العالم، بالرغم من أنَّ مدتها لا تتجاوز غالباً بضع ثوانٍ إلى دقائق. وبينما تُمثّل وسيلة ترفيهية وتعليمية مميزة، فإن تأثيرها يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك.. فهل تساءلنا يوماً عن التأثير العميق للمقاطع القصيرة على صحتنا النفسية والجسدية؟ وهل يمكن لهذه المقاطع أن تكون سبباً في تغيير سلوكياتنا؟
- أولاً.. ما سبب إدمان المستخدمين على هذه المقاطع؟
أصبحت هذه المقاطع تجذب ملايين المستخدمين يومياً، ويجد الكثيرون صعوبة في مقاومة الرغبة في مشاهدة المزيد. هذه الظاهرة ليست محض صدفة، بل نتيجةً لتصميم هذا النوع من المحتوى بطريقة تستهدف العقل البشري وتستغل أنماط السلوك الرقمي الحديثة.
إدمان الأشخاص على هذه المقاطع يعود لعدة عوامل نفسية وسلوكية. أحد الأسباب الرئيسية هو تأثير "المُكافأة الفورية"؛ عندما يُشاهد الأشخاص مقاطع قصيرة يحصلون على دفعة سريعة من الدوبامين، وهو المادة الكيميائية التي تُشعِر الإنسان بالسعادة، هذه الدفعة السريعة تجعل الناس يرغبون في مشاهدة المزيد للحصول على نفس الشعور. بالإضافة إلى تصميمها الجذّاب الذي يستهدف انتباه المستخدمين بشكلٍ مباشر، تتميّز هذه المقاطع بأنها قصيرة وسريعة الإيقاع، مما يجعلها مثالية لجذب المشاهدين في ظل تزايد قصر فترة التركيز في العصر الرقمي. كما أنَّ المنصات تعتمد خوارزميات متطوّرة تعرض محتوى مخصصاً لكل مستخدم بناءً على اهتماماته، مما يُعزّز من شعورهِ بالرضا الفوري ويدفعه لمواصلة المشاهدة بلا توقّف.
وفقاً لدراسة أُجريت عام 2021 ونشرتها منصة "ساينس دايركت" أنَّ مُشاهدة المقاطع المُنسقة خصيصاً لك بواسطة الخوارزميات تُنشّط مراكز المُكافأة في الدماغ بصورة أكبر من مُشاهدة المقاطع العشوائية.
- كيف يمكن لهذه المقاطع القصيرة أن تُلامس جوانب مختلفة من حياتنا؟ وما هي المخاطر المحتملة التي قد تترتّب على هذا النوع الجديد من التفاعل مع المحتوى؟
-التأثير النفسي:
في الآونة الأخيرة شهدنا زيادة ملحوظة في انتشار المشاكل النفسية في مختلف أنحاء العالم، هذه الزيادة قد تكون نتيجة للتغيرات السريعة في الحياة، بالإضافة إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. بسبب كثرة تكرار مشاهدة المقاطع القصيرة، غالباً ما يتأثّر الأفراد بما يرونه. وبالرغم من أنَّ هذه المقاطع تعرض جزءاً فقط من حياة الناشرين، إلا أنَّ هناك من لا يُدرك ذلك ويتأثر نفسياً نتيجة مشاهدة إنجازات أو حياة الآخرين. وهذا التأثير يؤدي إلى:
• الشعور بالنقص وانخفاض الثقة بالنفس: لأن الفرد يُقارن حياته اليومية بما يراه من إنجازات وحياة مثالية للآخرين في هذه المقاطع.
• الإحباط والحزن: مشاهدة الحياة المثالية قد تجعل الشخص يضع توقعات غير واقعية لحياته الشخصية والمهنية، مما قد يسبب إحباطاً عندما لا تتحقّق هذه التوقعات.
• القلق والاكتئاب: يمكن أن يؤدي التأثر النفسي بمشاهدة الحياة المثالية للآخرين إلى زيادة مستويات القلق والتوتّر، وفي بعض الحالات يمكن أن يتطوّر إلى الاكتئاب.
أكّدت الدراسات أنَّ الإفراط بمشاهدة المقاطع القصيرة يمكن أن يضر بالصحة النفسية؛ وذلك لأنَّ المستخدم يُقارن نفسه بآخرين يُظهِرون حياة مثالية أو إنجازات كبيرة في ثوانٍ معدودة.
- التأثير السلوكي:
المقاطع القصيرة تُعيد تشكيل سلوكياتنا بشكلٍ لافت، فهي تُعزّز من ثقافة الاستهلاك السريع للمعلومات والترفيه، مما يؤدي إلى تراجع الاهتمام بالأنشطة التي تتطلّب وقتاً أطول، مثل القراءة أو المهام الطويلة. تُظهر الدراسات أنَّ الاستهلاك المُفرط للمقاطع القصيرة يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مدى الانتباه والتركيز لدى الأفراد.
وفي السنوات الأخيرة لاحظنا تزايد ظاهرة تكرار التصرفات غير المسؤولة. هذه الظاهرة تعود إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن هذا النوع من المحتوى يلعب دوراً هاماً في تشكيل سلوك الأفراد وتأثيره عليهم، خاصةً عند الأطفال والمراهقين الذين يكونون أكثر تأثّراً بما يشاهدونه ويسمعونه، حيث يشاهدون محتوى يحثّهم على تقليد تصرفات غير مناسبة. فتكرار مشاهدة المقاطع ذات الطابع العاطفي قد يُعزّز من السلوكيات المقلّدة، خصوصاً لدى الأطفال والمراهقين، ما يجعلهم أكثر عرضة لتبني هذه التصرفات.
- التأثير الصحي:
أما من الناحية الصحيّة ففي الفترة الأخيرة أصبحت مشاكل النوم أكثر شيوعاً بين الناس في جميع أنحاء العالم. هذا الانتشار يعود إلى مجموعة من العوامل، من ضمنها استخدام الأجهزة الإلكترونية قبل النوم، مما يؤدي إلى اضطرابات في النوم وصعوبة في الحصول على قسط كافٍ من الراحة الليلية.
تأثير انخفاض جودة النوم الناتج عن الاستخدام المّفرط للمقاطع القصيرة يمتد إلى العديد من الجوانب الصحية:
• إجهاد العينين: قضاء وقت طويل أمام الشاشات خاصةً قبل النوم، يؤدي إلى إجهاد العين بسبب التعرّض المستمر للضوء الأزرق.
• ضعف الجهاز المناعي: أثناء النوم ينتج الجسم بروتينات تُعرف بالسيتوكينات، التي تساعد على مكافحة الالتهابات والعدوى، فقلّة النوم تقلّل من إنتاج هذه البروتينات وتضعف قدرة الجسم على التصدّي للأمراض.
• مشاكل صحية مزمنة: الأرق المستمر وقلة النوم يمكن أن يزيدا من مخاطر الإصابة بأمراض مزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب. بمرور الوقت، يمكن أن تؤدي قلة النوم إلى عدم استقرار الهرمونات، وهذه التغيرات الهرمونية قد تنتج عنها الإصابة بارتفاع ضغط الدم وغيره من عوامل الخطورة المؤدية إلى الإصابة بأمراض القلب.
أصبحت المقاطع القصيرة أكثر من مجرد وسيلة ترفيه ومصدر سريع للمعلومات، بل هي جزء من حياتنا اليومية التي تُساهم في تشكيل طريقة تفاعلنا مع العالم. ولكن مع كل هذه الفوائد تأتي تحديات لا يُمكن تجاهلها، فإن آثارها النفسية والسلوكية والصحية تستدعي الانتباه؛ لأنَّ الاستخدام المُفرط لهذه المقاطع يمكن أن يؤدّي إلى نتائج سلبية على مستويات عدّة، فيكمن الحل في التوازن بين الاستمتاع بما تقدّمه التكنولوجيا الحديثة وبين الحفاظ على صحتنا ووقتنا، لضمان أن تكون هذه الأدوات وسيلة للتقدّم، لا عائقاً أمام حياتنا ومستقبلنا. لا يمكننا إيقاف التطوّر الرقمي، لكن يمكننا أن نتحكّم في كيفية تأثيره علينا لنعيش حياة متوازنة وصحية في ظل هذا العصر الرقمي المُتسارع.