السلمانية: استعادة الهوية العمرانية الوطنية .. الأمير د.عبدالعزيز بن محمد بن عياف
news image


أطلقتُ للمرة الأولى مصطلح "العمارة السلمانية" كوصفٍ لمنهج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز فيما يتعلَّق بالطابع العمراني المحلي لمنطقة الرياض، والذي يحافظ على أصالة التراث ويأخذ بالمستجدات العصريَّة في تزاوج مثالي بين الأصالة والمعاصرة يحفظ الهوية العمرانية المحلية.
 

            منذ ما يزيد عن الخمسة عقود، تردد صدى نبض التطور الحضري الديناميكي لمدينة الرياض تحت القيادة المؤثرة لأمير منطقتها آنذاك الأمير (الملك) سلمان بن عبد العزيز. قادت شخصيته البارزة والملهمة تنمية وتطور المنطقة منذ عام 1963 إلى عام 2011م، بملامح اتَّسمت بالتحول الفريد في المشهد العمراني للمدينة. وشهدت المدينة تحولاً غير مسبوق لتصبح مترامية الأطراف تنمو نمواً سريعاً في ظل توجيهاته الحكيمة، التي تركت في النسيج الحضري الحالي للرياض بصمة واضحة وصريحة لرؤيته الاستراتيجية.

يمثِّل إرث الملك سلمان العمراني رواية معمارية وعمرانية فريدة، أصبح فيها التوجه السلماني مرادفًا لنهضة الرياض. ولا تزال الروح المعمارية والعمرانية للمدينة، متجذرة بعمق لمبادئ السلمانية، ومستمرة في تشكيل قوة دافعة في التحول المستمر في الرياض، وتتماشى بسلاسة مع رؤية المملكة 2030 الطموحة، التي أكدتها وتبنتها ودعمتها. وليس العمران السَّلماني، الذي يشهد على حكمة الملك سلمان ورؤيته وبعد نظره، مجرد مظهرٍ مادي، بل هو توجُّهٌ عمراني شكل هوية الرياض، بدءًا من تفاصيل التخطيط الحضري ووصولاً إلى الأفق المهيب. وبينما تخطو المدينة بخطى واثقة نحو المستقبل، يظل الإرث السلماني بمثابة الضوء المرشد، الذي يوجه النمو المستمر للرياض ويعزز مكانتها كمنارة للابتكار والتقدم والمؤامة بين الإصالة والحداثة. ولا توجد مدينة في العالم تشبه الرياض بارتباطها الوثيق والطويل بشخص سلمان بن عبد العزيز، وهذه العلاقة ليست علاقة زمنية فقط، بل هي علاقة توجيه وتأثير وعطاء للمدينة وأهلها وسكانها وامتداد ذلك التأثير إلى المدن السعودية الأخرى. كان تطوُّر المدينة المتسارع غير مسبوق ونادر الحدوث، استمرَّت فيه الرياض عبر تلك السنوات في التغير والتوسع مكانياً وسكانياً، مع بقاء سلمان بن عبد العزيز موجودًا في ذاكرتها ما بقي التاريخ، وستبقى معه الجوانب السلمانية في جميع مناحي حياة المدينة وسكانها، سواء أكانت عمرانية أم اقتصادية أم اجتماعية أم إدارية وسياسية.

        تزخر الرياض اليوم بحمد الله بالكثير من المشاريع والأعمال النموذجية التي تجسد التوجه العمراني السلماني الذي استحال إلى توجه رسمي بإصدار ضوابط واشتراطات تلزم بتبني المفهوم على مستوى المدينة وفي كافة مشاريعها ومخططاتها بما يؤصل لممارسته ويُمكن البيئة العمرانية المحلية أن تزدهر وتنتشر تحت مظلة السلمانية. التي تنطلق من نهج وقاعدة صلبة أساسية وواضحة، تضمن توحيد التوجه وأصالته مع معاصرته، وفي نفس الوقت تترك مجالاتٍ للابتكار لتنتج عمرانًا أصيلاً يتجلى فيه الأبداع والتنوُّع. وفي محاضرة له حفظه الله، في مركز الملك عبد العزيز التاريخي عام 1420ه، تحدث بشخصيَّة العارف الخبير عن الأصالة والمعاصرة، وأوضح وجهة نظره في أن ليس بين الأصالة والمعاصرة تضارب، فيمكن أن تكون، حسب قوله، أصيلاً ومعاصراً، وليس معنى المعاصرة أن تتجرد من أصالتك، بل على العكس يمكن الجمع بين الأمرين، وهذا بالفعل ما تمَّ في كثير من مناحي العمران في الرياض. إذاً المواءمة بين الأصالة والمعاصرة هي جوهر نهج السلمانية العمراني، وليست محصورة بمكان أو زمان. ولذلك يجب التركيز ولفت النظر إلى عدم تسطيح السلمانية كمنتج فقط والمطالبة بتكراره أو عناصره ومفرداته. ويخطئ من يعتقد بأن العمران السلماني هو جميع المشاريع والمنشآت التي أقيمت في عهد سلمان بن عبد العزيز إبان إمارته لمنطقة الرياض ففي ذلك تسطيح لمصطلح العمران السلماني إذ ظهر في تلك الفترة منشآت عمرانيَّة حكوميَّةٌ وخاصَّة، غير ذات صلةٍ بتاريخ وعمران ولا تعكس الفكر السلماني العمراني.
 

يخطئ أيضاً من يرى السلمانية ويختزلها في العمارة المحلية النجدية التقليدية وفي مفرداتها وعناصرها المعمارية المعروفة، فالسلمانية أشمل من ذلك وأوسع ولا يمكن تضييقها في ذلك الإطار، فهي تتعدى تلك التفاصيل بكونها توجُّهًا تنعكس تفاصيله مختلفة بحسب الظروف التاريخية والجغرافية والبيئيَّة، وبما يتوفر من عناصر حديثة يمكن استيعابها للتواؤم مع متطلَّبات العصر. كما يخطئ من يعتقد أننا عندما نطالب بتطبيق السلمانية ونشرها في جميع مدن ومناطق المملكة أننا نطالب بتوحيد الطراز العمراني النجدي المحلي وتطبيقه في كافة المدن السعودية، فلكل منطقة من مناطق المملكة طابع خاص يميزها عن غيرها من حيث مواد البناء والمناخ والمجتمع وأصالة الإرث العمراني، فالسلمانية نهج يحترم ويقدر العمارة والعمران المحلي لكل منطقة وبكل عناصره وتفاصيله، ويسعى إلى احتواء كل جديد معاصر لا يؤثر على روح ووظيفة وانتماء المبنى لمحيطه التاريخي والجغرافي والاجتماعي. ويتميز النهج السلماني بشموليته، فرغم ارتباطها المنشئي الوثيق بالرياض، إلا أن تعميمه على مدن ومناطق المملكة أصبح ضرورة ملحة. وأخيرًا يخطئ من يعتقد أن السلمانية هي المنشآت المعمارية فقط، إذ تشمل الإطار العمراني التنموي الأشمل باعتباراته التخطيطية والبيئية والإنسانية.

         في رؤية المملكة 2030 وفي قلب مدينة الرياض النابضة بالحياة، تنكشف قصة رائدة لاحتضان المدينة مشاريع غير مسبوقة، تؤسس معيارًا جديدًا على الساحة العالمية. كما تشكل هذه الجهود حراكًا تنمويًّا إيجابيًّا يمهِّد الطريق لعصر تحولي. وبينما تسير الرياض بجرأة نحو المستقبل بمشاريعها الضخمة، فإنها لا تفعل ذلك كدليل على البراعة المعمارية فحسب، بل كانعكاس للقيادة التي تتجاوز مجرد التنمية - إنه "صراع" ذو رؤية للالتزام بالتراث والمواطنة، والتوجه السلماني.  والمفتاح ليس فقط في حجم هذه المشاريع، ولكنه يكمن أيضًا في ضخ العنصر السعودي. والدعوة للمشاركة الفعالة للقدرات السعودية من مختلف القدرات المهنية، وهي خطوة لا تعزز التنمية فقط، بل تنشر أيضًا جوهر التوجه السلماني على نطاق واسع، يتردد فيه صدى السلمانية بحقائق عميقة. ونظرًا للأمثلة العديدة للتوجه السلماني، فإن واجبنا أن نسلط الضوء عليها. إنه نداء للتعرف، والإقرار بالقوة التحويلية لذلك التوجُّه الذي يكمن في جوهر الحكمة السلمانية: " دمج الأصالة بالحداثة"، وهو رؤية تتجاوز الزمن، وتحتضن جذور التراث وتصل إلى سماء الابتكار اللامحدودة. لتؤكد بإن التوجه السلماني خارطة للتعايش المتناغم بين التقاليد والتطور، وهو إرث يدعونا جميعا إلى أن نكون أوصياء على الأرض.

         في الرياض وصل النضج المعماري والعمراني في تبني وفهم نهج السلمانية لمستويات متقدمة، وعلى جامعاتنا ومكاتبنا الاستشارية مسؤولية كبيرة بالمسارعة للسعي للاستفادة من الوضع الحالي سواء في هذا المستوى من النضج المعرفي والمهني للسلمانية أو ما تمر به المملكة من تنمية عمرانية ضخمة وبمشاريع كبرى في ظلِّ رؤية المملكة ٢٠٣٠ يندر أن توجد في أي بلد أخر سواء من حيث سرعة أو حجم المشاريع وتنوعها أو في اختلاف مواقعها وتوزيعها الجغرافي، أو تعدد الخبرات العالمية الاستشارية. لذلك فهي فرصة قد لا تتكرر. وسيضيف التعلم من التجربة ومحاكاتها ومعايشتها إلى المكون المحلي المتخصص عمرانياَ الكثير. تعيش المملكة بصفة عامة والرياض بصفة خاصة ثورة تنموية ضخمة لو كانت في بلد أخر لابتعثنا طلابنا ومتخصصينا إليها ليستفيدوا من التجربة. والحمد لله فطالما هي عندنا وبيننا وتخصنا، فعلى المختصين والمتخصصين من السعوديين أن يعيشوا التجربة ويكتبون عنها، ويتقصون عنها، ويشاركون إيجابياً في تحقيقها، وينشرون ويوثقون ما يستطيعون لنقلها للجيل الحاضر وللأجيال القادمة.

السلمانية، كما أشرت سابقًا، لا تقتصر على بناء المنشآت فقط، بل تتعلق أيضًا بتشكيل الموروثات التي يتردد صداها عبر العصور. ويحثُّ التوجه السلماني، بمبادئه المدن على إعادة رسم تصور مستقبلها، من خلال استيعاب الماضي لاحتضان نبض المستقبل. والسلمانية هي خارطة طريق للإدارة والتنمية الحضرية، وهي المنطلق لإحياء الهوية العمرانية للمدن السعودية، وحري بنا أن نحسن فهمها فهماً عميقاً جاداً ونغتنم فرصة تبني القيادة لها ولا نتركها لتفسيرات ووجهات نظر وجدليات مختلفة من أفراد أو مجموعات قد تنحرف بها عن هدفها ومسارها الصحيح. فكرة السلمانية في المؤامة بين الأصالة والمعاصرة تشرح نفسها في توسيع دائرتها في المحافظة على الهوية الوطنية بجانبها الأصيل وفي نفس الوقت تفتح الباب بمعاصرتها لشحذ الهمم والأفكار من أجل تأكيد الهوية العمرانية الوطنية وتمكينها.